تخيل العالم بدون اللون الأرجواني

يتكون معظم اللون الأرجواني في عالمنا الحاضر من الصبغات والمواد المُركبة. ولكن قبل 4000 سنة في مصر القديمة لم يكن اللون الأرجواني شائعاً، وكان معدن الجمشت أحد المصادر الطبيعية القليلة للون الأرجواني بالعالم القديم. فلم يوجد سوى عدد قليل من مصنوعات الجمشت في دول البحر المتوسط القديمة قبل عام 2000 قبل الميلاد، لكن كل ذلك تغير مع ظهور الدولة المصرية الوسطى بالفترة ما بين (1700-2000 قبل الميلاد). حيث اكتشف المنقبون المصريون أكبر مصدر للأرجواني في العالم القديم بمنطقة وادي الهودي خلال عصر الدولة الوسطي. وأصبح حجر الجمشت رائجاً بكثرة، يتسارع المسؤولين ورجال الحاشية الملكية من أجل للحصول على هذه المجوهرات الأرجوانية، مثل تلك التي وجدت خلال أعمال حفائر البعثة المعروضة الآن بمتحف المتروبوليتان للفنون بنيويورك. فمن المحتمل أن هذه المجوهرات كانت ذو مكانة عالية، وحصل عليها الفرعون من خلال رحلات استكشافية ضخمة، وكانت تقدم كهبة للأفراد المتميزين مثل الأميرات.
كيف كانت تُدار البعثات التعدينية قديماً؟

زودتنا النقوش الحجرية التي كشفت عنها بعثة وادي الهودي، وغيرها من البعثات بالمواقع الاثرية المختلفة، بمعلومات وفيرة عن كيفية إدارة بعثات التعدين الملكية في الدولة الوسطى بالفترة ما بين (1700-2000 قبل الميلاد). تبدأ حكاية كل بعثة برغبة الفرعون في إمداد الورش الملكية بأحجار الجمشت أو معادن أخري، حيث يكلف الملك أحد رجال الدولة الكبار مثل رئيس أعمال البلاط الملكي، لجمع ما تحتاجه البعثة من موظفين وإداريين وعمال أقوياء للقيام بهذه الرحل الاستكشافية إلى المناطق الصحراوية حيث تتواجد تلك المعادن والأحجار. فالكثير من النقوش الحجرية تتباهي بكمية الجمشت التي تم العثور عليها، وكيف نجحوا في الحافظ على سلامة وأمان العاملين في الصحراء، وكيف فكر الفرعون ووثق في قدرات موظفيه الأكفاء. يبدو أن تلك البعثات التي يقودها رجال البلاط الملكي نيابة عن الملك كانت مؤقتة، ولم تدم سوي بضعه أشهر في كل مرة.

كانت تنتقل البعثة عبر القوافل في الصحراء، ويتم إمدادها بشكل منتظم من خلال سلسة حيوية من شحنات الطعام والمياه القادمة من وادي النيل طوال فترة البعثة. كان المشاركون في البعثة يستكشفون المواقع الأفضل والتي تُبشر بإنتاج ضخم وبمجرد أن يجدوا المكان المناسب يبدأ عمال المناجم ببناء معسكر باستخدام الأحجار الصغيرة الفضفاضة الملقاة على أرضية الصحراء كمواد لبناء. وكانت تقوم البعثات اللاحقة بإعادة استخدام هذه المعسكرات، وتقوم بتوسيعها أو تجديدها. أما الحفارون فيقومون بحفر ثقوبًا عملاقة تتبع عروق المعدن الخام الظاهر على السطح. فقد كانوا يستخدمون المطارق الحجرية من الجرانيت لكسر الأحجار واستخراج عروق الجمشت. بعد استخراج الجمشت، تبدأ أولى خطوات التنقية بجوار المحجر، بالإضافة إلى خطوات تنقية أخري تتم بالمعسكر. ينقل بعد ذلك الجمشت الخام إلى الحرفين العاملين لدي الفرعون بوادي النيل، حيث يتم صقلها وتنقيتها أكثر وتحويلها إلى مجوهرات.
يبلغ طول بعض المحاجر في وادي الهودي إلى 60 متراً وعرضها 20 متراً، بينما تبلغ مساحة معسكرات التعدين 70 متر طولاً و50 متر عرضاً، وهو ما يشير إلى ضخامة أنشطة تلك البعثات الاستكشافية من خلال دراسة علم الأثار بمنطقة وادي الهودي، أصبح لدينا الفرصة لمقارنة ما عرفناه من النقوش والكتابات على الواقع. بعض الكتابات تذكر أن أكثر من 1500 رجل شارك في هذه البعثات الاستكشافية، ومع ذلك فإن أكبر المستوطنات التي تم العثور عليها ودراستها تضم حوالي 75 غرفة فقط، ومن الصعب أن تستوعب الجميع في وقت واحد. كعلماء آثار يجب علينا أن نتحقق ما إذا كانت الأرقام المذكورة في النقوش دقيقة، وإذا كان الأمر كذلك، فكيف يمكن تفسيرها؟ هل من الممكن أن يكون هناك نوع من التناوب بين أعضاء البعثة حيث يذهب بعضهم ويأتي آخرون، وبذلك يكون الرقم النهائي 1500؟ بالإضافة إلى المناطق السكنية، تم اكتشاف عدد كبير من المطارق، وأكوام من مخلفات الحفر، وغيرها من العوامل الأخرى التي تساعدنا على فهم كيف كانت تُدار تلك البعثات التعدينية.
ماذا كان يستخرج المصريين القدماء؟
يُعتبر وادي الهودي مثل أي مكان أخر بالصحراء الشرقية، فهي منطقة غنية بالموارد المعدنية. يرجع السبب في ذلك إلى الطبيعة الجيولوجية الخاصة بالصحراء والمسئولة عن تركيز المواد الخام المرغوبة بتلك المناطق. فهذه المنطقة لا تقع فقط على الحدود بين تشكيل صخري معقد لحجر النايس القديم وأحجار الجرانيت البركانية الأصغر سنًا، لكنها تحتوي أيضًا على الحجر الرملي النوبي، وعروق البازلت البركاني، المعادن، وعروق حجرية أخرى.
أثبتت الجيولوجيا صعوبة في رسم الخرائط وفهمها بشكل كامل نظراً لدرجات عوامل التعرية بالمنطقة، لكن أجري بير ستورمير مسحًا جيولوجيًا للمنطقة المحيطة ببعض المواقع. ويبدو أن تجمع بعض التكوينات الجيولوجية بالمنطقة كانت سببًا في جعل منطقة وادي الهودي مصدرًا قيمًا للعديد من الأحجار والمعادن مثل حجر الكوارتز (البلور الصخري) والجمشت والذهب، والميكا، والرصاص، والنحاس.
في العصور القديمة كان المصدر الرئيسي للتعدين هو معدن الجمشت، وهو حجر كريم جميل ذات لون أرجواني جميل يتكون من مجموعة متنوعة من الكوارتز التي تحتوي على الحديد. يتكون الجمشت في العروق المعدنية التي تعبر الصحراء الشرقية داخل صخور صغيرة تشبه الجيّود. نظرًا لأن اللون الأرجواني يتلاشى في ضوء الشمس الساطع، فلن يكون هناك رقائق من معدن جمشت المرئية فوق السطح – كان يجب حفر مجسات استكشافية للبحث أسفل السطح عن تلك الأحجار الكريمة.

في المملكة الوسطي بالفترة ما بين (1700-2000 قبل الميلاد)، كان معدن الجمشت رائجًا للغاية، وكان المكان الرئيسي للتعدين واستخراجه هو وادي الهودي. الجمشت هو حجر أرجواني شبه كريم كان يُستخدم في المجوهرات التي ترتديها نخبة المصريين القدماء مثل الملكات والأميرات، ويمكن القول إن فرعون كان يستخرج الجمشت حتى يتمكن من مكافأة أعضاء البلاط الملكي على أعمالهم الصالحة. وفى الأغلب كان امتلاك قطعة من الجمشت بمثابة علامة علي النفوذ الاجتماعي لمرتديها لأنها كانت تأتي مباشرة من الورش الملكية التابعة للملك فقط.
يوجد كذلك الجمشت بشكل شائع بمدافن الدولة الوسطي، وهو ما يعكس درجة الهوس به خلال تلك الفترة. فمن المثير للاهتمام أنه كلما كانت درجة اللون أغمق، كلما زادت قيمة القطعة. اشتهر حجر الجمشت ايضًا بخصائصه السحرية في مصر القديمة، وارتبط بالجنس والحب في الأرض وفى الحياة الأخرة. تنص تعويذة سحرية تُعرف باسم نص التوابيت رقم 576 على ” بالنسبة لأي رجل يعرف هذه التعويذة، فأنه سيمارس الجنس في هذه الأرض ليلًا أو نهارًا، وسيملك قلب المرأة المستلقية أسفله عندما يمارس الجنس معها” ومن أجل تفعيل هذه التعويذة يجب على الشخص أن “يقف فوق خرزة من العقيق أو الجمشت، وتوضع على الذراع الأيمن بالنسبة للمتوفي”. هذه الصورة ملكية عامة متوفرة بمتحف المتروبوليتان للفنون بنيويورك.





هل قام العبيد بحفر المناجم؟

مازلنا لم نتوصل بعد إلى معرفة ما إذا كان العبيد يقومون بحفر المناجم أم لا، وهو سؤال رئيسي لعملنا المستمر، ولا يزال قيد المناقشة. وذلك لأن النقوش والنصوص الموجودة لدينا بوادي الهودي تقدم معلومات متناقضة بخصوص هذا الموضوع. علي سبيل المثال، في النقش رقم WH6 للسنة 17 من عهد الملك سنوسرت الأول تنص على أن البعثة أحضرت 1000 رجل قوي البنية من مدينة طيبة، مما يشير أن المصريين كانوا يشاركون في أعمال المناجم. ربما حصلوا على أجر جيد مقابل عملهم أو ربما تم تجنيدهم للعمل بالسخرة (ضريبة على العمل كان على جميع المصريين دفعها لحكومتهم). في المقابل، هناك نقش أخر (WH143) غير مؤرخ، ولكن من عهد الملك سنوسرت الأول، ويقول “أما بالنسبة لرئيس رماة ال تا-ست (النوبيين)، فعملهم كعبيد يتم فقط بأمر من الإله (=سنوسرت الأول).” يشير هذا النقش على أن المصريين كانوا يجمعون النوبيين ويجبروهم على العمل تحت تهديد من الملك. أن مهمة علم الأثار هي تأكيد النقوش ووضعها في سياقها الزماني والمكاني. بصفتنا علماء أثار، فإننا نبحث في أسئلة مثل: هل يدعم تصميم وهندسة معسكرات التعدين استخدامها كسجون؟ هل يمكن لعمال المناجم المغادرة من تلقاء أنفسهم؟ كيف كان يقوم الموظفون المصريون بمعاملة العاملين بالمناجم؟ هل كانوا يتغذون جيداً ويتم الاعتناء بهم أم يتعرضون للضرب لتكاسلهم؟ هل كان الحراس المذكورون في النصوص يعملون هناك لإبقاء السجناء في المعسكرات أم لحماية البعثة من اللصوص؟
هل عمل النوبيين في وادي الهودي كعمال بالمنجم؟

نعم، لقد استخدم المصريون بشكل مطلق عمال المناجم المصريين والنوبيين في هذه الحملات المؤقتة. حتى أن بعض النقوش القديمة من وادي الهودي مثل النقش WH14 الذي يرجع تاريخه إلي العام الثاني للملك منتوحتب الرابع تنص على أنهم أحضروا “جميع النحس (=النوبيين) من واوات، وسيتي (=النوبة)، والشمال والجنوب” لفتح مناجم الجمشت . كما توجد أدلة أثرية على وجود النوبيين بوادي الهودي، حيث تحتوي جميع المواقع الاثرية التي يرجع تاريخها إلى المملكة الوسطي علي كمية من فخار المجموعة ج- النوبي، والتي تتكون في الغالب من أواني الطهي، والأكواب، والأوعية. جميعها من النوع المُستخدم لتحضير وتناول الطعام بالمنازل. بالإضافة إلى ذلك، تم استخدام تقنيات البناء النوبي في بناء المعسكرات. يبدو أن الموظفين المصريين صمموا المكان، لكنهم أصدروا تعليماتهم للعمال النوبيين بصنعها. من الواضح أن النوبيين اتبعوا التصميم المصري ولكنهم استخدموا طرقهم وتقنياتهم الخاصة التي تعلموها في موطنهم سواء في طريقة وضع الأحجار أو بناء نوافذ صغيرة.
ماذا كان يفعل الجنود في وادي الهودي؟

كان الجنود يقومون بحراسة وادي الهودي، حيث كانوا يجلسون بالساعات في أماكن مُحددة في المناطق السكنية وأعلى الجبال حول المعسكرات يراقبون المنطقة المحيطة بهم. تتميز تلك المواقع الاستطلاعية بمنظر شامل للمنطقة كلها، مما يتيح للجنود رؤية الأماكن البعيدة في مختلف الأودية ومتخلف الاتجاهات. فقد كان هؤلاء الجنود يراقبون أي حركة في الصحراء، بما في ذلك القوافل التجارية، والبدو الرُحل، والحيوانات إلخ، وبالمثل إذا كانت هذه المعسكرات للسخرة – فربما كانوا أيضًا يراقبون العمال للتأكيد من أنهم لم يغادروا أو يسرقوا أي شيء من المستوطنات.
وفي أوقات الملل، قام هؤلاء الجنود بنقش مئات النقوش الحجرية بالقرب من أماكن حراستهم كنوع من أنواع التسلية. فقد كانت معظم رسوماتهم تحتوي على مناظر لجنود يحملون أسلحة مثل العصى، والبعض يرافقون كلابهم، والبعض الأخر كتبوا أسماءهم وألقابهم بجانب صورهم بينما أكتفي أخرون برسم أقدامهم أو الألعاب. تأمل البعثة في دراسة وتحليل تلك النقوش للتعرف على مستوى معرفة القراءة والكتابة لدى هذه الطبقة الاجتماعية من الجنود. مثل تلك الأسئلة لا يُتاح لنا معرفة الإجابة عليها إلا من خلال سياق أثري مميز وفريد غير موجود في أي مكان في مصر تقريباً إلا في معسكرات وادي الهودي.
من نحت تلك المئات من النقوش الحجرية؟

قبل تحليل وتفسير تلك النقوش الحجرية لابد من دراستها أولاً في سياقها الأثري. هناك ثلاثة انواع من النقوش الحجرية بالوادي. أولاً، تلك النقوش المعروفة باسم “النصوص التاريخية”، والتي ينقشها كتبة مُدربون تدريبًا جيدًا. غالبًا ما تتضمن اسم الملك، وأسماء كبار الموظفين، والبيانات الرسمية الخاصة بالبعثة الاستكشافية، توجد تلك النقوش التاريخية بأماكن مرئية لجميع رواد المنطقة، مثلًا على جانبي الممرات والطرق، وعلى واجهات أو مداخل المناطق، وعلى كتل حجرية أو تلال ظاهرة. ثانياً، هناك تلك النقوش التي حفرها الجنود بالقرب من مواقع حراستهم (انظر أعلاه). وأخيراً، هناك الرسومات والأسماء التي تم حفروها داخل الغرف التي كان يشغلها أعضاء البعثة التعدينية في المعسكرات. غالبًا ما تكون هذه النقوش على الجدران الداخلية التي لا يراها أحد ما لم يدخل الغرفة. سيكون من المستحيل تفسير مثل تلك النقوش خارج سياقها المادي سيكون على فريق بعثة وادي الهودي مهمه دراسة مساحات المعسكرات، والاشياء الموجودة بالمواقع، وبقايا القمامة التي تركها واستخدمها الأشخاص الذين عاشوا وعملوا في تلك البعثات.
ماذا يمكن أن تخبرنا بقايا عظام الحيوانات؟

تعتبر عظام الحيوانات من أكثر أنواع القطع الأثرية شيوعًا في وادي الهودي. يمكن أن تعطينا عظام الحيوانات قدرًا كبيرًا من المعلومات حول طرق التغذية الخاصة بعمال المناجم في هذه البيئة الصحراوية القاسية. من خلال دراسة أنوع الحيوانات التي كانت موجودة بالمعسكرات، نستطيع معرفة أنواع الطعام وطرق الطهي المُستخدمة في تلك المجتمعات النائية. على سبيل المثال، من خلال النظر إلى مجموعة الأنواع الموجودة، يمكننا معرفة ما إذا كان سكان المعسكرات يعتمدون على لحوم الحيوانات التي كانت ترسل إليهم من وادي النيل أم إذا كانوا يستغلون كذلك الحيوانات الصحراوية البرية. يمكن ايضًا من خلال دراسة هياكل الحيوانات الملقاة بالقمامة أن نتعرف على طرق الذبح، ومعرفة القليل حول كيف كانت تذبح الحيوانات، وكيف كانت تتم معالجة لحومها، وطرق طهيها، يمكنا ايضًا من خلال النظر إلي عمر وجنس الحيوانات المذبوحة أن نتعرف على ما إذا كانت الحيوانات تستخدم لإنتاج مشتقات أخري غير اللحوم مثل الحليب أو استخدامها لأغراض الجر. في عام 2018، بدأت كيت جروسمان في دراسة بقايا عظام الحيوانات بالموقعين 5،9. سيضيف تحليلها ودراستها بعدًا آخر لمعرفة حياة عمال المناجم بوادي الهودي.
ماذا كانوا يأكلون ويشربون في الصحراء؟

هذا السؤال من الأسئلة الرئيسية التي تحاول بعثة وادي الهودي الأثرية الإجابة عليه. حيث لا يوجد بهذه الرقعة من الصحراء أي مصادر للمياه، والأشجار أو حتى الحيوانات. فقد كان عليهم جلب المياه والطعام من أماكن أخري، وهو ما يعنى أن تلك البعثات التعدينية كانت تعتمد بشكل كبير على إمدادات مستمرة أما من الدولة أو من الأشخاص. الإجابة المختصرة على هذا السؤال هو أن المستكشفين كانوا يأكلون اللحوم والخبز ويشربون المياه والبوظة. لقد عثرنا على بقايا عظام حيوانات بأركان البيوت، ولكن مازال يجب علينا دارسة ما إذا كانت تلك البقايا تنتمي لحيوانات برية تم صيدها في الصحراء، أم عظام حيوانات أليفة ومستأنسة تم جلبها من وادي النيل.
وبالمثل، وجدنا بقايا بذور لكننا مازلنا ندرس ما إذا كان المصريون قد جلبوا الحبوب من وادي النيل لتحضيرها في مخابزهم، أم أنهم نقلوا الخبز الجاهز من وادي النيل حتى لا يحتاج العمال إلى الخبز. فضلًا عن أنه مازال غير معروف طرق إمداداتهم بالمياه حتى الآن. فلم نعثر قد على أي آبار مياه محفورة بالقرب من معسكرات التعدين الكبرى، ولكن لا يعقل ايضًا أن يسافر أي شخص مسافة 35 كيلو مترًا من وادي النيل إلى مواقع التعدين محملًا بالمياه. مازلنا نبحث عن آبار قد تكون حُفرت من قبل العاملين بالبعثة في الصحراء، حتى مع وجود مثل تلك الآبار، لابد من وجود طريقة لنقلها عدة كيلومترات حتى تصل للمعسكرات الرئيسية. الماء كان بمثابة أغلى سلعة في الصحراء، ومما لا شك فيه أنه كان يتم حمايتها وتقنينها من قبل مسئولي الدولة المشرفين على البعثة.
هل كانت تلك المعسكرات بمثابة حصون في الصحراء؟

لا، هناك الكثير من الكتابات المبكرة التي أطلقت على معسكرات التعدين بوادي الهودي اسم “حصون عسكرية”، ويرجع ذلك في الغالب إلي أن الموقع 9 يحاكي شكل القلاع المعاصرة على طول نهر النيل بالنوبة السفلي، مثل حصن بوهين الذي (يبلغ سمك جدرانها حوالي 30 مترًا). ومع ذلك، على عكس هندسة حصون النوبة، فأن هندسة الموقع 9 غير عملي لحماية الناس من أي هجوم. حيث تبلغ ارتفاع الجدران نحو مترين فقط، وسماكة قاعدته نحو متر واحد فقط، فيمكن لشخص سليم البدن تدميرها بسهولة. يوجد ايضًا ثقوب صغيرة في الجدران الخارجية لموقع 9 أطلق عليها العلماء السابقون أسم “ثغرات” ويفترض أنها كانت تُستخدم لإطلاق الأسهم من خلالها، لكنها لا تتوهج مع فتحها على عكس مثيلاتها الموجودة بالحصون المعاصرة الموجودة بالنوبة السفلى. وهو ما كان يتيح لرماة الأسهم إطلاقها بشكل مستقيم فقط، وكان هناك أحجار صغيرة مدببة داخل تلك الثغرات من شأنها أن تسد العديد من ضربات الأسهم.

على الجانب الآخر، معظم الثغرات الموجودة بجدران الموقع 9 الخارجية تُفتح على ممرات أو غرف صغيرة تحتاج إلى الإضاءة أو أنها تقود إلى أماكن يعمل بها الأفراد أو يسيرون بداخلها. لذلك فمن المرجح أن تلك الثقوب كانت بالأحرى نوافذ للإضاءة والرؤية.
في الواقع، لم توفر تلك الجدران سوي الحد الأدنى من الحماية، لكنها كانت أقرب إلى أسوار المدن وليست حصون. فقد كانت مجرد وسيلة لتقييد الدخول والخروج وتوفير الحماية البسيطة لساكني المعسكرات من هجوم الحيوانات المفترسة أو اللصوص، لكن لم تكن النية من بناءها صد هجوم الجيوش. لذا، يجب علينا أن نطلق على موقع 9 اسم “مستوطنة” أو “مستوطنة محصنة” وليس “حصن” أو “قلعة”.