تحديد المواقع والنماذج ثلاثية الأبعاد

منذ بداية بعثة وادي الهودي الاثرية ونحن نتبنى طرق المسح الأثري التي تؤهلنا من تحقيق أهدفنا في عمل توثيق ثلاثي الأبعاد للآثار والمساحات المحيطة بالمنطقة. باستخدام توتال ستايشن أو جهاز قياس المواقع والأبعاد المعمارية من نوع LEICA، قمنا بقياس وتحديد مواقع معظم الآثار المعمارية، القطع الأثرية، مناطق الحفائر، والنقوش والنصوص المحفورة بكل موقع أثري بالوادي. التوتال ستايشن أو الوحدة الشاملة هو جهاز بصري إلكتروني يقيس الانحدارات والارتفاعات والمسافات لنقاط متواجدة في المجال المحيط بموقع الجهاز. تمكننا قراءات هذا الجهاز من عمل خرائط ونماذج مفصلة للمواقع الأثرية. بالإضافة إلى ذلك، تمكننا من تخطيط مجموعة من الخطوط المتقاطعة مع قياسات مساحية حول وادي الهودي تم توثيقها بدقة على الخرائط من قبل، وبذلك استطعنا إمداد منظم الإحداثيات المستعرض العالمي ميركاتور (UTM) بإحداثيات جميع المواقع الأثرية المُكتشفة حتى الآن، مما يتيح تغذية تلك المعلومات في أي نظام معلوماتي جغرافي. مما يعني أنه يمكننا وصف أماكن تلك المواقع بدقة ونقل تلك المعلومات للجمهور الأكاديمي أو الحكومي المعنيّ.

بالإضافة إلى ذلك، باستخدام سلسلة من الصور ذات المنظور العلوي لإنشاء صورة فسيفسائية للمواقع الاثرية في هيئة خريطة ذات دقة عالية من نوع الخرائط الحمراء-الخضراء-الزرقاء (RGB) بكل ما فيها من بيانات، خطوط هندسية، وتضاريس طوبوغرافية. سيتم نشر كل تلك الخرائط بكل المواقع الأثرية الموجودة بوادي الهودي في المستقبل القريب. تمكنا كذلك باستخدام هذه التكنولوجيا من تحقيق أحد أكبر أهدافنا الرئيسية من أعمال المسح الأثري وهو رسم خرائط معمارية لإحدى عشر موقع، بالإضافة إلى مواقع جميع النقوش الحجرية بالوادي. بجانب النشر العلمي للخرائط، تأمل البعثة في إيجاد مصدر التمويل الذي يتيح لنا العمل على تلك الخرائط وشراء مساحة ضخمة من الخوادم الحاسوبية لإتاحة تلك الخرائط والمعلومات كنماذج ثلاثية الأبعاد بجميع الصور المُخزنّة والتضاريس المشروحة المتعلقة بها ونشرها على شبكة الإنترنت. إذا تمكننا من العودة مرة أخرى للصحراء، نأمل في أخذ صور أعلى دقة لتلك المواقع التي تم تحديدها على الخريطة لنتمكن من عمل نماذج ثلاثية الأبعاد للنقوش والمعسكرات حتى يتمكن الزائر من السير بالموقع ورؤية الآثار افتراضيا، وهو جالس بمنزله.
لمسح التصويري لدراسة النقوش

من خلال أعمالنا ببعثة وادي الهودي، نهدف إلى إعادة نشر 155 من النقوش التي قام أحمد فخري بتصويرها ونسخها، بالإضافة إلى النقوش التي تم العثور عليها حديثاً ويبلغ عددها فوق المائة، وأيضا تلك النقوش التي سنظل نعثر عليها في السنوات المقبلة من العمل بالوادي. عندما نقوم بذلك نريد تفسير وترجمة النقوش ضمن سياقها الأثري والمكاني، وذلك لأن معني النقش قد يتغير حسب كيفية عرضه أو ما إذا كان مرئي بالنسبة للعامة. لذا، فإن دراسة النقوش بمنطقة وادي الهودي اعتمدت بشكل أساسي على أعمال المسح ثلاثي الأبعاد للمنطقة. أكبر تحدي لدراسة النقوش الموجودة بوادي الهودي هو وجود معظمها على أسطح صخرية غير مستوية. كان حارسي النقوش في الماضي يقومون بتوثيق النقوش الصخرية عن طريق وضع طبقة من الورق الشفاف فوق النقش لنسخه. لكن تلك الطريقة تؤدي إلى صورة ثلاثية الأبعاد مشوهة وغير واضحة للنقوش، كما لو أنها رسم مسطح (ثنائي الأبعاد). كما أن تلك الطريقة التقليدية مرهقة وخطر، وتستهلك وقت طويل، بالإضافة إلى أنها مُكلفة لأن الدارس يضطر إلى نسخ وترقيع الرسم في وسط الصحراء.

بدلا من الطريقة التقليدية، اعتمدت بعثة وادي الهودي على أسلوب التوثيق ثلاثي الأبعاد في تسجيل النقوش باستخدام تقنية المسح التصويري أو الفوتوغرامتري، من خلال صور رقمية ذات دقة عالية. حيث نقوم بشكل أساسي بأخذ صور عالية الدقة و صور بالأشعة المنعكسة (RTI) (الموضحة أدناه) للنقوش، ونقوم بتسجيل وقياس كل نقش باستخدام التوتال ستيشن أو المحطة الشاملة (أنظر “تحديد المواقع والنماذج ثلاثية الأبعاد” أعلاه). قمنا باستخدام تقنية البناء من الحركة في برنامج Agisoft Photoscan لدمج النماذج ثلاثية الأبعاد الناتجة عن أعمال دراسة النقوش مع خرائط المسح الثلاثي الأبعاد للمواقع الأثرية (انظر فيما يلي). باستخدام تلك الطريقة، يمكننا استعادة الصور الثنائية الأبعاد (المسطحة) للنقوش حتى يمكن رسمها بخط اليد بالطريقة التقليدية عند نشرها في الكتب. هذا بالإضافة إلى أن دراسة النقوش من خلال هذا التوثيق المتطور يتيح لنا معرفة السياق المكاني للنقوش وتحديد مواقعها في الوادي وتفسير معانيها المُستمدة من مكان انتماءها بأتباع مبادئ دراسة الدلالات الجغرافية. ولاتزال دراسة النقوش بأسلوب التصوير ثلاثي الأبعاد مستمرة
تطبيقات المسح التصويري الحديثة

لقد قمنا بتصميم أساليب لاستخدام الأجهزة الموضحة أعلاه، والتي تتيح لنا استخدام برنامج Agisoft Photoscan كوسيلة أساسية في عمل المسح الثلاثي الأبعاد الآثار المعمارية بوادي الهودي. باستخدام تلك الأساليب يستطيع ثلاثة أشخاص فقط عمل مسح سريع للآثار المعمارية باستخدام ست كاميرات موجهة في اتجاهات مختلفة على ارتفاعين. يتم التقاط هذه الصور أثناء السير عبر المواقع التي تفصل بينها مسافة ثلاثة أمتار تقريبًا، ثم يتم تحميل تلك الصور على برنامج Agisoft Photoscan ما يسمى بتقنية البناء من الحركة، حيث يقوم برنامج المسح التصويري على الكومبيوتر بتركيب وإنتاج نماذج ثلاثية الأبعاد عالية الدقة باستخدام الصور التي تم تصويرها بالموقع وكذلك تلك الصور التي تم تصويرها أثناء دراسة القطع الأثرية. نستطيع من خلال تلك النماذج ثلاثية الأبعاد أن ننتج خرائط رقمية باستخدام Agisoft أو كملفات يتم إدخالها على نظام المعلومات الجغرافية ArcGIS. على سبيل المثال، تُظهر الصور الهيكلية لموقع 5 التي تم إنتاجها من النموذج ثلاثي الإبعاد أنه على نفس مستوى دقة لخريطة الموقع الذي تم إنتاجه خلال شهر باستخدام التوتال ستيشن أو الوحدة الشاملة.
خلال موسم عمل 2019 بدأنا في تصميم طريقة عمل جديدة للنماذج ثلاثية الابعاد ببرنامج Photoscan حيث يتم دمجهم لعمل خرائط ومقارنة الخرائط بالمواقع الموجودة على الطبيعة في وقت قياسي لا يتعدى فترة عمل البعثة الميدانية, باستخدام طرق المسح التصويري الجديدة، سنتمكن من استكمال أعمال المسح المعماري وتحديد المواقع الأثرية في وقت أسرع كثيراً وضمن فترة العمل المحدودة المتاحة لنا.
التصوير بالأشعة المنعكسة (RTI)

تم حفر نقوش الصخرية بوادي الهودي في الأصل باستخدام طريقتين مختلفتين. أولًا هي أن يقوم الشخص بــ”حفر” نقش عن طريق نحت خطوط على الحجر باستخدام حجر مدبب ذو أطراف حادة أو باستخدام أداة تسمي الإزميل.
الطريقة الأخرى هي أن يقوم الشخص بـ”نقر” النقش، أو طرق الحجر في نفس النقطة مرارًا وتكرارًا حتى يتم تقشير جزء من السطح بما يكفي لتشكيل الصورة. كلتا الطريقتين تمثلان نوعان مختلفان من التحدي عند تسجيل النقوش. في بعثة وادي الهودي، قمنا باستخدام التصوير بالأشعة المنعكسة لتوثيق وتسجيل النقوش الموجودة على الصخور المحيطة بالموقع وفي الصحراء، بالإضافة إلى تلك النقوش الموجودة على القطع الأثرية واللوحات التي تم العثور عليها أثناء المسح الأثري والحفائر. التصوير بالأشعة المنعكسة، هي تكنولوجيا حديثة قامتمؤسسةتصويرالتراثالثقافي بتطويره. تلك التقنية تستخدم سلسلة من الصور يتم أخذها من نفس المنظور باستخدام زوايا إضاءة مختلفة. بعد ذلك، يقوم برنامج التصوير بالأشعة المنعكسة بعمل نموذج “انعكاسي” للسطح الذي تم تصويره.

تُنشئ هذه التقنية ملفًا يتيح لنا رؤية السطح عن طريق تغيير زوايا الإضاءة الواقعة على السطح. كما يعطي لنا النموذج الانعكاسي معلومات عن سطح الحجر المنقوش عليه تساعد على نسخ النقوش. بالنسبة لدراسة الفنون الصخرية، يعطينا النموذج فكرة عن درجة تنعيم السطح الذي نتج عن “النقر” لحفر النقش، ومن خلال معرفة درجة التنعيم، يمكننا معرفة الوقت الذي قضاه الشخص في حفر النقش أو جزء من صورة. الطرق التقليدية في نسخ النقوش لا تظهر تلك الدرجة من النعومة أو الخشونة سوى عن طريق إظهار التعرجات المتفاوتة فقط. لكن التصوير بالأشعة المنعكسة يظهر لنا قياسات كمية لدرجة التنعيم والخشونة، وهي قياسات تفيدنا عند نشر تلك النقوش حيث أن ذلك التفاوت يساعد في ترجمة النقوش ترجمة صحيحة وتوثيقها وتفسيرها. لاستخدام تلك التقنية المتطورة في وادي الهودي كان لابد من تصميم حجرات مظلمة متنقلة للتحكم في ظروف الإضاءة أثناء تصوير النقوش الحجرية بالأشعة المنعكسة. كما استخدمنا نفس التقنية على القطع الأثرية المُكتشفة، مثل شقف الفخار، لإظهار معلومات عن طرق صناعة وتزيين الفخار. لقد ساهم التصوير بالأشعة المنعكسة في التعرف على طرق الصناعة المُستخدمة في تشكيل عدة أواني، حيث تبين أنه من المحتمل أن تكون تلك الأواني نوبية الصُنع بسبب طرق زخرفتها.
تقنيات المسح الكرونومترى

يأتي جميع أعضاء فريق بعثة وادي الهودي بحوزتهم ساعة، كاميرا، ودفتر ملاحظات. يتم تسجيل جميع الصور الذي يتم تصويرها بالموقع في دفتر الملاحظات مع تسجيل الوقت والموقع. تلك المعلومات في غاية الأهمية لأي عضو آخر يستكمل أعمال المسح الأثري حيث أنها تمكنه من معرفة أين أُخذت تلك الصورة بالتحديد وأين كان يقف المصور حين دون تلك الملاحظات على الصورة والبقايا الأثرية. بعد كل يوم عمل، يقوم الفريق بتنزيل البيانات والصور التي تم أخذها خلال اليوم ورسم مسار السير الذي قام به كل عضو من أعضاء فريق المسح الأثري على برنامج GoogleEarth فنتمكن على الفور من معرفة ارقام كل صورة تم تصويرها بمنطقة معينة.
إعادة التصوير
نحن محظوظون لأن أحمد فخري وإيان شو تمكنوا من تصوير موقع وادي الهودي في أواخر الأربعينيات من القرن الماضي وفي عام 1992. تُعد تلك الصور القديمة في غاية الأهمية لعملنا بالبعثة لأنها تمكننا من تحديد مواقع البقايا الأثرية وكيف تغيرت عبر الزمن باستخدام تقنية إعادة التصوير. أولاً، نبدأ بتحديد الموقع والزاوية التي قام المصور الأصلي بالتقاط الصورة من خلالها. بعد ذلك، نعيد إصدار نفس الصورة بنفس الزاوية على قدر المستطاع على حسب ضيق الوقت والمعدات المتاحة وقتها. ثم نطابق الصورتين، الجديدة والقديمة، حتى يتضح لنا التغييرات بالمنطقة أو بالأثر عبر الزمن. ولأننا نعرف بالضبط أين تم التقاط الصورة الجديدة بالوقت والإحداثيات، يمكننا أن نوثق أماكن البقايا الأثرية التي تم فقدها أو حدث بها تآكل أو تغيرت منذ التقاط الصورة القديمة. على سبيل المثال، إذا تم تصوير بوابة معسكر أو منطقة سكنية وكانت على درجة كبيرة من الحفظ في 1992، لكن قام بهدمها بالبلدوزر الباحثين عن الذهب بطرق غير شرعية، فنحن يمكننا تحديد موقعها الأصلي بالضبط باستخدام تقنية إعادة التصوير.


البتروغرافيا (وصف وتصنيف التكوين الجزيئي للمادة)

وصف الصخور وتصنيفها هو أسلوب يتم استخدامه في دراسة الخزف والفخار يتيح لنا النظر بالمجهر (الميكروسكوب) على تكوين طينة الفخار لمعرفة مصدرها الأصلي، وبالتالي معرفة كيف تم تصنيع الأواني الفخارية. باستخدام هذه التقنية يتم قطع 0.3 مم سمك من الشقفة أو الآنية، ونثبته على شريحة المجهر حيث يتم فحصها باستخدام المجهر الاستقطابي الذي يغير زاوية واتجاه الضوء، مما يساعدنا في رؤية تكوين المعادن، الصخور، والمواد العضوية المكونة لنسيج طينة الفخار. تلك المعلومات تساعدنا على معرفة المصدر الجيولوجي للطينة، فنتبع من خلالها المكان الأصلي الذي تم فيه صناعة الفخار ومن أين تم استيرادها، وهذا يتيح لنا رسم مسار طرق التجارة والإمدادات. تعتبر البتروغرافيا في غاية الأهمية بالنسبة لوادي الهودي لأن جميع الأواني الفخارية التي احتوت على الأساسيات المادية تم جلبها من وادي النيل إلى الموقع. بالتالي، فإن معرفة مصدر الفخار يساعدنا على معرفة من كان يمدّ البعثة والعاملين بالبعثة بالماء والطعام في وسط الصحراء.